بين التهديدات والتفاوض: لماذا اختارت إيران عُمان للوساطة مع الولايات المتحدة؟

عادت سلطنة عمان إلى الساحة الدولية من جديد، وما كان مجرد إشاعات في السابق سيصبح حقيقة قريبا بعد الإعلان رسميا عن المحادثات الأميركية الإيرانية في مسقط السبت المقبل.
ويترأس الوفد الإيراني وزير الخارجية عباس عراقجي، في حين يترأس الوفد الأمريكي المبعوث الرئاسي ستيف ويتكوف.
وفي وقت سابق، تلقت طهران في منتصف مارس/آذار الماضي رسالة أميركية نقلتها الإمارات العربية المتحدة إلى القيادة الإيرانية عبر مستشار الرئيس الإماراتي أنور قرقاش.
ووصفت طهران هذه الرسالة بأنها أكثر من مجرد تهديد، وتحدث العديد من المراقبين في ذلك الوقت خلف الأبواب المغلقة عن عدم رغبة السلطنة وقطر في نقل الرسالة الأميركية إلى طهران لأنها تحتوي على تهديد.
لكن إيران ردت برسالة عبر سلطنة عمان، وجعلتها أيضا مركزا لاستئناف المحادثات غير المباشرة بشأن البرنامج النووي لطهران، وهو ما قد يؤدي إلى رفع العقوبات المفروضة حاليا على البلاد.
ويرى عبدالله باعبود، وهو باحث عماني متخصص في العلاقات الدولية ومنطقة الخليج والشرق الأوسط، أن قرار إيران اختيار عُمان موقعاً للرد على الولايات المتحدة، نابع من حياد السلطنة والثقة المتبادلة بين مسقط وطهران.
وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، أشار إلى أن الجولة السابقة من المحادثات في عُمان، والتي أدت إلى توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، اتسمت بالسرية المطلقة، وجرت دون أي تدخل من السلطنة في المحادثات. وبمعنى آخر فقد وفرت السلطنة البيئة والمكان المناسبين.
ويرى الباحث العماني أن دول الخليج والمنطقة ككل مقتنعة بأن الصراع مع إيران سيكون له تداعيات كبيرة على المنطقة بأكملها.
محادثات مباشرة أو غير مباشرة؟
أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صراحةً عن تفضيله للمحادثات المباشرة: “أعتقد أن المفاوضات المباشرة ستكون أفضل. وتيرة المفاوضات أسرع، ويمكن فهم الطرف الآخر بشكل أفضل من استخدام الوسطاء”.
وفيما يتعلق بإيران، تم الإعلان عن محادثات غير مباشرة.
أولا، بسبب ما يراه من تهديدات أميركية مستمرة ضد إيران. وفي تصريحات أخيرة، وصف عراقجي المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة بأنها “لا طائل منها” في ظل التهديدات و”التناقضات” التي تبديها إدارة ترامب.
وقال عراقجي في بيان لوزارة الخارجية، إن “المفاوضات المباشرة مع طرف يهدد باستمرار باستخدام القوة في انتهاك لميثاق الأمم المتحدة ويتخذ مواقف متناقضة لا طائل منها”. وأضاف: “نحن ملتزمون بالدبلوماسية ومستعدون لتجربة طريق المفاوضات غير المباشرة”.
ثانيا، دفعت تجربة طهران مع ترامب في ظل الاتفاق النووي السابق وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى وصف المفاوضات المقبلة في مسقط في تعليق له على منصة إكس بأنها “فرصة واختبار”، والقول إن الكرة الآن في ملعب واشنطن.
ورأى الخبير في الشؤون الإيرانية الدكتور حكيم أمهز أنه في البداية لن تكون هناك مفاوضات مباشرة، بل مفاوضات غير مباشرة، مشيرا إلى أن الجانب الأميركي وافق على هذه الصيغة.
وفي مقابلة مع بي بي سي العربية، قال أمهز إن هدف المفاوضات غير المباشرة هو أن يجد الجانبان أرضية مشتركة لبناء المرحلة التالية من المفاوضات، أي المفاوضات المباشرة.
وأوضح أمهز أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة وضعتا شروطا لبدء المفاوضات المباشرة، وأن العديد من هذه الشروط تم سحبها من قبل الجانبين، في حين تم إزالة العديد من العقبات من قبل الوسطاء.
ويرى الباحث في الشؤون الإيرانية أن بناء الثقة شرط أساسي للمفاوضات المباشرة. وإذا تحقق هذا الشرط، فإن الجانبين سيدخلان مرحلة جديدة من المفاوضات المباشرة، والتي يعتقد أنها ستؤدي إلى اتفاق نووي إيراني.
لماذا عُمان؟
في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، هناك عدة عوامل تؤهل دولة ما لدور الوسيط في حل النزاعات. وتشمل هذه العوامل الموقع الجغرافي، والعلاقات الدبلوماسية الجيدة، والالتزام بالحياد والمصداقية في العلاقات الدولية، والاستقرار السياسي الداخلي. هذه العوامل موجودة في سلطنة عمان منذ عقود.
هذه السياسة الخارجية انتهجها السلطان الراحل قابوس بن سعيد آل سعيد منذ توليه السلطة عام 1970. وكانت ترتكز على ثلاثة مبادئ: الحياد والوساطة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ولعلّ أهمّ ما قاله السلطان قابوس بن سعيد في هذا الصدد يتمثّل في عبارته الشهيرة: “أبتعد كل البعد عن سياسة المظاهر والتأثيرات، ولا أسعى إلى احتكار الأضواء بعملي، فسياستنا الخارجية قائمة على الحياد وعدم التدخل المطلق في شؤون الآخرين”.
وفي عام 1971 انضمت السلطنة إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. في عام 1981، انضمت سلطنة عمان، ثاني أكبر دولة خليجية من حيث المساحة، إلى مجلس التعاون الخليجي. وتماشياً مع التزاماتها الدولية والعربية والخليجية، نفذت السلطنة سياستها الخارجية من خلال تبادل البعثات الدبلوماسية وانفتاحها على العالم.
محطات عُمانية في الحياد والوساطة
ونظراً للموقع الجغرافي المتوتر والمليء بالصراعات الذي تتمتع به السلطنة، فلا بد من أخذ حياد السلطنة في الاعتبار.
وتنتهج سلطنة عمان سياسة خارجية محايدة تجاه القضايا الأكثر حساسية في المنطقة، مثل الحرب بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن العشرين والغزو العراقي للكويت في عام 1990.
بعد إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981، حافظت مسقط على موقفها المحايد تجاه الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت عام 1980 وانتهت عام 1988. وهذا يتناقض مع مواقف دول الخليج التي انحازت آنذاك إلى بغداد بسبب مخاوفها من توسع النفوذ الإيراني في المنطقة. وحافظت مسقط على علاقاتها الممتازة مع طهران دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي.
مثال آخر: بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تلتها عام 1979، قاطعت عدة دول عربية مصر لتوقيعها على الاتفاقية احتجاجاً على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وكانت عُمان من الدول العربية التي لم تقاطع مصر بعد توقيع الاتفاقية، دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع الدول العربية الأخرى.
وعلى نحو مماثل، اعتمدت سلطنة عمان موقفاً محايداً ومؤيداً للسلام خلال الغزو العراقي للكويت في عام 1990.
ورغم أن أغلب دول مجلس التعاون الخليجي أدانت الغزو ودعمت التدخل العسكري لتحرير الكويت، فإن سلطنة عمان حافظت على سياسة الحياد ودعت إلى الحلول السلمية بدلاً من التصعيد العسكري. ولم تشارك السلطنة في التحالف الدولي لتحرير الكويت، ولكنها لم تعارض قرار التحالف أيضاً.
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك عدم مشاركة سلطنة عُمان في العملية العسكرية لما يُسمى “قوات التحالف العربي” ضد حركة أنصار الله الحوثية في اليمن في مارس/آذار 2015. علاوة على ذلك، حافظت السلطنة على حيادها تجاه الأزمة التي اندلعت عام 2017 بين دول مجلس التعاون الخليجي وقطر، مؤكدةً دعمها القوي لجهود الوساطة الكويتية لحل الأزمة الخليجية، والتي تُوجت باتفاقية العلا في يناير/كانون الثاني 2021.
ولكن مسقط لم تكتف بالنهج الحيادي، بل تولت أيضاً دور الوسيط. ومن أهم القضايا التي لعبت فيها هذا الدور الاتفاق النووي الإيراني، والأزمة السورية، والملف اليمني.
ولم تقتصر وساطة سلطنة عمان على الأزمات الكبرى، بل شملت أيضاً قضايا إنسانية، مثل دورها في إطلاق سراح الرهينة الفرنسية إيزابيل بريم التي اختطفت في اليمن عام 2015، وفي عمليات إطلاق سراح رهائن أخرى بين إيران والولايات المتحدة، وبين إيران وبلجيكا.
لكن النجاح في توقيع الاتفاق النووي الإيراني يعتبر “ثمرة جهود” دبلوماسيتهم.
ومنذ عام 2010، في عهد السلطان السابق قابوس بن سعيد، تمكنت البلاد من استضافة محادثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران.
ظلت هذه المحادثات سرية حتى أصبحت علنية بعد بضع سنوات. في عام 2015، في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، تم توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة أيضًا باسم الاتفاق النووي، بين إيران وست قوى كبرى.
لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سارع إلى سحب بلاده من هذه الاتفاقية في عام 2018، خلال ولايته الأولى.
لكن هذه المرة عاد ترامب إلى البيت الأبيض مستعدا لإجراء محادثات مباشرة مع طهران، لكنه حافظ على خطابه التصعيدي تجاه طهران.
ويُنظر إلى الوساطة الحالية في عُمان على أنها استمرار لنهج سلطان عُمان السابق واختبار مهم لدبلوماسية السلطنة في عهد السلطان الحالي هيثم بن طارق آل سعيد، الذي تولى السلطة في عام 2020 بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.