خلف الزجاج.. حين تصبح التذكرة نافذة لكشف أسرار الحياة اليومية

منذ 2 شهور
خلف الزجاج.. حين تصبح التذكرة نافذة لكشف أسرار الحياة اليومية

في صمت إحدى محطات مترو الأنفاق، الذي يقطعه صوت القطار القادم، ينكشف مشهد يومي متكرر: ركاب يقفون على الرصيف كأشباح متعبة، عيونهم تتجه نحو الأفق، ينتظرون اللحظة التي ستدور فيها العجلات قف. في ضوء المصابيح الخافت، تبدو الوجوه متعبة، والأكتاف مثقلة بتكرار الأيام وسلطة الروتين. الهواء في المحطة مشبع برائحة المعدن القديم والغبار المتراكم الذي يلامس الأنفاس الثقيلة التي تملأ المكان.

وسط هذا المشهد الصاخب، يبرز أحمد كعاشق للروتين الذي لا نهاية له. يجلس خلف الباب الزجاجي لمكتب التذاكر ويراقب الركاب بأعين لم تفقد تعبها منذ سنوات. في كل وجه يمر أمامه يرى قصة مختلفة، لكنه يعلم أن القاسم المشترك فيها جميعا هو هذه النظرة المتسرعة والرغبة في إنهاء هذه الطقوس اليومية المتكررة. يدرك أحمد تمامًا كم أرهقتها الحياة، ولم يعد هو نفسه يشعر أن يومه يختلف عن يومها، باستثناء جلوسه خلف ذلك الزجاج البارد وتقديم التذاكر باستمرار.

في كل صباح، يبدأ أحمد يومه قبل أن تنفتح السماء على ضوء الفجر. يرتدي قميصه الأزرق المخطط بعناية وكأنه درع يحميه من هموم الحياة اليومية. يشق طريقه من منزله المتواضع في حي شبرا إلى قلب القاهرة المضطرب، حيث تتبادر إلى ذهنه صورة ابنتيه التوأم وهما تستعدان للذهاب إلى المدرسة. كل يوم يراهم يكبرون أمام عينيه، وكل يوم يزداد حلمه بأن يصبحوا أطباء ويساعدون الفقراء، تمامًا كما كان يحلم دائمًا.

عندما يصل أحمد إلى محطة القطار، يبدأ يومه بممارسة طقوسه المعتادة. وهو يرشف فنجان القهوة الساخنة ببطء ويستمتع باللحظات الهادئة قبل بدء العمل. ومن رشفة إلى أخرى يتبادل التحية مع زملائه الذين يكنون له احتراما خاصا ويثنون على جديته في العمل ووده. ويبدو أنه نقطة مضيئة بين زملائه، فهو يبتسم معهم بعفوية ويستمع إلى قصصهم الصغيرة، مما يعزز علاقاته الودية معهم. لحظات التواصل القصيرة هذه تمنحه القوة ويشعر أن المحطة ليست مجرد مكان عمل، بل هي منزل ثانٍ يجمعه بأشخاص يشاركونه جزءًا من حياته اليومية.

وعلى مسافة بعيدة، تتدفق حشود من الناس نحو المحطة مثل دفق مستمر من الناس. رجال يرتدون بدلات وربطات عنق حادة، وجوههم متوترة من هموم العمل ومسؤوليات الحياة. وإلى جانبكم تتحرك النساء العاملات بثقة نحو هدفهن. وفي نفس المشهد، تستمر الأمهات في السير مع أطفالهن الصغار يركضون بجانبهن بشكل عفوي. ومنهم من يحمل أكياس تسوق تخفي بعض تفاصيل يومه الطويل.

تحرك العمال بملابسهم القذرة وأيديهم المتصلبة بخفة وسط الحشد، كما لو أنهم معتادون على تحدي الشدائد. في المقابل، يندفع الطلاب بشكل أسرع، حاملين كتبهم الثقيلة وأحلامهم التي تتأرجح بين النجاح والخوف. حتى كبار السن الذين يقتربون من الحياة ينضمون ببطء إلى هذا التدفق المستمر، بخطوات بطيئة، ولكن في أعينهم هناك نفس الترقب. كل شخص لديه هدف واحد: الوصول إلى شباك التذاكر في سباق غير معلن مع الزمن.

مع مرور اليوم سريعًا كعادته، يواصل أحمد عمله، وهو يعلم أن البعض يراه أمين صندوق “ممل”، ويلاحظ تلك النظرات المتحفظة التي تخفي الإلحاح والأسى. وهو يفهم أن الركاب يريدون إكمال هذه الطقوس اليومية في أسرع وقت ممكن، لكنه يعلم أن هذا لا يمنعه من القيام بعمله بهدوء وحذر: “الجميع أمامي يريد الانتهاء بسرعة، لكنني أفعل ما بوسعي. “حتى يسير العالم بهدوء.”

ووسط الأجواء المتوترة، توجه رجل خمسيني نحو النافذة. لم تكن خطواته المترددة مجرد علامة على التعب، بل كان هناك شيء أكبر واضح في ملامحه. ومع اقترابه همس لأحمد بأدب: “بصراحة، ليس لدي المال لشراء تذكرة”. في تلك اللحظة، قرر أحمد أن يبتعد عن هذا الضغط اليومي ويتبع قلبه. أخرج النقود من جيبه ودفع ثمن التذكرة للرجل، الذي ابتسم بخجل وقال: “كرمك الله وحفظك لعائلتك”. هذه الكلمات البسيطة تركت أثراً عميقاً في ذهن أحمد وذكّرته بأن الحياة هي لا تقاس فقط بالأرقام أو عدد التذاكر المباعة، بل باللحظات الإنسانية التي تجعل الحياة اليومية ذات معنى أكبر.

وبينما كان أحمد يتذكر هذه اللحظات الجميلة، استذكر موقفًا آخر مشابهًا عندما عاد إليه أحد الطلاب بعد أن نسي هاتفه الخلوي عند الخروج. ثم دخل الطالب مباشرة إلى غرفة أحمد وقبل رأسه عرفانًا: “الطالب عاد بعد فترة وجد الهاتف معي وكان سعيدًا جدًا لدرجة أنه لم يتمالك نفسه من السعادة، ودخل الغرفة وجلس هناك”. وقبلني.” ابتسم أحمد وهو يتذكر كيف يمكن لهذه التفاصيل الصغيرة أن تحول يومًا عاديًا إلى لحظة ملهمة.

ومع ذلك، فإن عمل أحمد لا يخلو من التحديات. ومن المشاكل التي يواجهها كثيرًا هي “التغيير”: “جاءني مرة واحد يريد شراء تذكرة بـ 8 جنيهات وكان معه 10، فقلت له مافي تغيير، لكن فجأة قال لي: (ليه في تغيير)” دائما لا تغيير؟ هل ستستمر في التغيير إلى متى؟) ولا أريد أن أقول لك إن من كان وراءه غضب مني، حتى الذي كان لديه التغيير، مصدق، أطلق غضبه شيئا.

ومع مرور الأيام وتغير الأمور في المحطة، لاحظ أحمد تغيرًا في تعبيرات الركاب مع ارتفاع أسعار التذاكر. يتذكر أحمد الأيام التي كانت فيها التذكرة بجنيه واحد، وكان الراكب يستطيع المرور بجميع المحطات دون حساب دقيق. لكن الآن، مع وجود تذاكر تفصل بين المحطات بألوان وأسعار مختلفة، بدا أن الخوف يرافقها في كل خطوة تخطوها نحو النافذة. بعضهم يعبر عن استيائه بشكل مباشر، والبعض الآخر يكتفي بالتنهدات العميقة قبل دفع الأموال: «في كل مرة ترتفع الأسعار أرى الناس يتغيرون. الذي كان يشتري تذكرة ويرحل دون أن ينطق بكلمة أصبح يصلي وكأني أنا السبب!!

ويدرك أحمد أن التغيير لم يقتصر على أسعار التذاكر فحسب، بل شمل كل تفاصيل الحياة، بما في ذلك الجوانب التي اعتبرها ثابتة، مثل حياته الشخصية. مع كل صباح جديد كان يشعر بثقل الأيام وهي تكرر نفسها بلا انقطاع، ينتظر اللحظة التي تنطفئ فيها أضواء محطة القطار لينام في أحضان المدينة. عندما يحين وقت إغلاق ماكينة تسجيل المدفوعات النقدية لآخر مرة في اليوم، يجمع أحمد أغراضه ببطء، وكأنه يجمع بقايا يوم طويل من التعب والأمل. يمر بقطارات ثابتة، صمتها الآن يعكس الصمت بداخله. يتوقف عند الكشك القريب ليشتري جريدته المعتادة. يلامس هواء الليل وجهه وهو ينظر إلى محطة القطار الفارغة التي كانت ذات يوم مليئة بالحركة والحياة.

في هذا الصمت يشعر أحمد وكأن العالم من حوله قد اختفى وبقي وحيدا في هذا الفضاء الشاسع. وبينما كان يتصفح الجريدة، يتفحص أحمد الأخبار التي تملأ الصفحات ويتأمل أحداث اليوم الجديد. عندما ينبلج الفجر، يعود إلى روتينه المعتاد ويكون مستعدًا لمواجهة القصص والتحديات الجديدة. يدرك أحمد أن المحطة أكثر من مجرد مكان عمل؛ وهو جزء من كيانه يحمل أسرار وأحلام ركابه في قلبه، ويبقى حاضرا في ذهنه دائما، مسرحا حيا لقصصه الشخصية ورغباته.


شارك