مصطفى الفقي يكتب: لبنان… المفترى عليه

منذ 3 شهور
مصطفى الفقي يكتب: لبنان… المفترى عليه

وعلينا أن ندرك أن جزءاً من أزمتها يعود إلى اتخاذ بعض الشرائح السياسية المؤثرة قراراتها على أراضيها.الطائفية مرض ملعون جاء إلى لبنان كأحد بقايا الظاهرة الاستعمارية الغربية، عندما سيطر الفرنسيون على القطاع الماروني، واهتم البريطانيون بالمكون الدرزي، وبقي العرب مع جموع من أتباع الطائفة السنية . بينما اختطفت إيران، في مواجهة الصراع العربي الإسرائيلي، العنصر الشيعي المتمركز في الجنوب، مما يجعل مسألة المواجهة مع الدولة العبرية مواجهة خطيرة تعرض أمن المواطن اللبناني وأمن بلاده للخطر.الفارق الزمني بين مشهدين لا يتجاوز 80 عاماً، ورغم ذلك تتزاحم الأفكار وتتناقض المواقف، وكأننا نقف أمام رواية في مسرح العبث! بين أحمد شوقي وخليل مطران وآخرين من لبنان الذين ورد ذكرهم في الصحف خلال القرن الماضي ولبنان الذي نتحدث عنه الآن، لدينا إحساس عميق بأن العالم قد تغير بشكل كبير وأن الظروف قد تغيرت تماما أين نقف من العلاقة إلى هذه الأسماء اللامعة التي اكتمل حضورها بفيروز ووديع الصافي وغيرهما من أساتذة الأغنية العربية عندما كان منتجع أم كلثوم المصري في لبنان، وعبد الوهاب رائد المدرسة الحديثة؟ الطرب، قضى إجازته الصيفية في أرض هذا البلد الجميل، وكان هناك نجل الزعيم الدرزي فريد الأطرش، والفنان صباح، وغيرهم من الروائع التي اشتهرت في ذلك العصر الغابر، ويبدو أن لن يعود.لا يبدو أن الفجوة الزمنية كبيرة، لكن أحوال لبنان المظلوم والمظلوم تغيرت، واختفت معالمه واختفت خصائصه ليظهر بدلا من الدمار والخراب والطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، إضافة إلى التعقيد السياسي، بقايا التعصب الديني ولمس سيطرة أصحاب النفوذ على الناس العاديين. لقد اكتفى لبنان، من التوترات الشديدة على حدوده الجنوبية مع إسرائيل إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة. السياحة هي لبنان الذي اعتاد أن يجذب الناس من جميع أنحاء العالم والمنطقة العربية، على الرغم من جمال أرضه و روعة جبالها وتضاريسها وأرضها أصبحت الآن مكانًا للحذر ومكانًا لتجنب الوديان. ماذا حدث للبنان… في السنوات الأخيرة أزيلت كل مظاهر الجمال وحل محلها اليوم الاستعدادات لحرب وشيكة أو مواجهة محتملة بين حزب الله وإسرائيل. وكأن الله قد كتب أن الشعب اللبناني سيدفع الفاتورة عشرات المرات، وأن أي حرب بالوكالة فيه ستصبح حرباً على الشعب اللبناني وأمنه واستقراره ومستقبل أجياله القادمة. الصراع في الشرق أصبح الشرق ساحات قتال محتملة في الأراضي العربية والفلسطينية واللبنانية وربما السورية والعراقية أيضاً! وبغض النظر عما يحدث في جنوب البحر الأحمر وحالة الهجمات المتبادلة بين مختلف القوى هناك، لا بد أن نعترف بأن هناك من يحاول جعل أيتام العرب اليوم على طاولة الخسة وحرمانهم من أشياء كثيرة. إن إرادة الشعب اللبناني في الحياة تكاد لا مثيل لها، مهما كانت الظروف ولأسباب عديدة.وأنا أكتب هذه السطور اليوم، ألفت الانتباه إلى مأساة هذا الشعب العربي، الصغير الحجم، الكبير النفوذ، الذي كان يمثل واحة أمن وموطن استقرار ورئة تتنفس منها المنطقة، منها الهواء. وتأتي (شجيرات الأرز) التي تحمل شعار هذه الأمة بوتقة التعددية وبوتقة انصهار التوجهات المختلفة والسياسية والثقافية. إنه لبنان بشير الشهابي وحتى الشهابية بكل أديانه وأماكن تواجده هو لبنان الشعراء والأدباء، واحة الفرح وملفتة للنظر. ولذلك كان من الطبيعي أن تستهدفها إسرائيل وتنظر إليها دائما، فهي كانت منافسا حضاريا قويا على حدودها ولم تتوقف هجماتها عليها وغزواتها أبدا. وللأسف لم تتفق مختلف القوى اللبنانية، ويكفي القول إن منصب رئيس الجمهورية شاغر لأسباب تتعلق بعدم القدرة على التوصل إلى توافق حول مصلحة هذا البلد الذي يفتخر به العرب والدول. الجمهورية يضيع الشرق أمام الشرق الأوسط وشواطئ البحر الأبيض المتوسط التي تواجهه. وأشير هنا إلى الاعتبارات التالية:أولاً: لبنان الذي كان مصدر إشعاع للمنطقة، لم يتوقف عن مواجهة الكثير من العقبات، لكنه تغلب عليها وخرج من دائرته. إنه شعب مبدع، قادر على تجسيد إرادة الحياة في أوضح معانيها، وهو شعب اتخذ الديمقراطية طريقا، حتى لو لم تكن مضمونا، لأن الظروف فرضتها وكبلته ولم تكن. لم يكن قادرًا على الاستمتاع بالحرية التي اعتدنا عليها وعرفنا أنه ينبغي عليه ذلك.ثانيًا: الطائفية مرض ملعون جاء إلى لبنان كأحد بقايا الظاهرة الاستعمارية الغربية، عندما سيطر الفرنسيون على القطاع الماروني، واهتم البريطانيون بالمكون الدرزي، وبقي العرب مع جموع من أتباع الطائفة السنية . بينما اختطفت إيران، في مواجهة الصراع العربي الإسرائيلي، العنصر الشيعي المتمركز في الجنوب، لتحول المواجهة مع الدولة العبرية إلى مواجهة حادة تهدد أمن المواطن اللبناني ودولته، ولم أكن أريد ذلك ويركز الصراع الذي يتطور على طائفة دينية من الشعب لا تقتصر أبدا على معتقد واحد أو قالب فكري واحد. إنهم شعب التعددية وقبول الآخر والتسامح مع الاختلاف. يوجد في لبنان حالياً نوع من القمع الواعي لهذا الشعب، الذي يرعب سكانه ويدق إسفيناً بين طوائفه. القضية الفلسطينية هي قضية سياسية وليست دينية، كما هو الحال. شاركوا العرب في مخاطر السياسات الإسرائيلية الحالية، ونزعات نتنياهو التدميرية ورغبته في تقويض روح لبنان التقليدية ومكانته المحترمة.ثالث: لبنان ميخائيل نعيمة وسعيد عقل وحتى لبنان جبران خليل جبران سيبقى دائما مصدرا للقوى الناعمة التي نفتخر بها في كل مناطق الوطن العربي والتي نفتخر بها لأننا ندرك أن هذه القوى ثروة لا حدود لها. وهي تشمل التعليم والثقافة والإعلام والمؤسسات الدينية ومراكز البحوث وقاعات الفكر، ولن تفوتها. ليس لدينا المسرح اللبناني ولا السينما الشامية العظيمة التي بدأت في الأرض اللبنانية الواعدة، أنا مصري عربي وأصرح صراحة أن المزاج العربي يتمحور بشكل أساسي حول مزيج من نماذج الفن المصرية واللبنانية والخليجية، منذ ذلك الحين. لقد برزت شبه الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة كمصدر للأشياء الجديدة، وقد استجابت الأجيال الناشئة لذلك بأصداء من بلدان المغرب العربي وأعماق أفريقيا، لكنها لم تكتفِ بالإنتاج الغني لعرب المغرب. بلاد الشام، تحد من الأحداث السياسية الجارية أكثر، بل تجاوزت كل معاني النهضة والعوامل الأولية والأساليب التي تؤدي إلى حياة أكثر إشراقا وإشعاعا.رابعا: قلبي مع لبنان وروحي معه أيضاً. أردد دائما بالصوت الملائكي قصيدة فيروز شوقي الخالدة “يا جار الوادي” وأدعم هذا الشعب الشقيق الذي لا يعرف اليأس ولا يقبل الذل، ويطالب بوحدته الوطنية وتماسكه الشعبي، ويؤمن بقدرته على ارتكاب مؤامرات تدمير ويواجه التحالفات ويصنع وجهًا جديدًا مهما كانت الصعوبات التي تحيط به والمصاعب التي يجب أن يتحملها.خامسا: وعلينا أن ندرك أن جزءاً من أزمة لبنان وبؤسه سببه بعض الشرائح السياسية المؤثرة التي هي صاحبة القرار على أرضه. وتتسم الحياة السياسية بأبعاد طائفية وانتماءات خارجية، مما سمح لأعداء لبنان باستغلال هذا الانقسام التاريخي لتوسيع الفجوة وتضخيم الصراع وتصوير الشعب اللبناني وكأنه مجموعة من الشعوب الصغيرة. وفي بوتقة انصهار، حان الوقت لأن تجدد الحياة السياسية في لبنان شبابها وتوقف ظاهرة وراثة مراكز السلطة، لأن لبنان دولة حديثة لا تقوم حاليا على القبلية أو المفاهيم القبلية القديمة أو حتى المعتقدات الدينية. هذه أمور أمام المواطن خيار أن يقرر ما هو الأفضل لوطنه، بغض النظر عن انتمائه الديني أو الحزبي. وسواء كان الأمر يتعلق بمعتقدات سياسية أم لا، قد يكون لبنان نائماً، لكنه ليس نائماً دائماً. قد تتعثر، لكنها لن تسقط أبداً عن موقعها التاريخي والجغرافي الفريد. سيبقى لبنان العربي واجهة لعروبته قبل أن يصبح واجهة طائفة متميزة أو امتدادا لقوى خارجية على ترابه. لبنان هو لبنان الإرادة والكرامة.هذا هو لبنان المذموم في ظروف صعبة وأوضاع معقدة وعالم يتغير كل يوم. السلام على وطنه وشعبه في هذه الظروف التي تغطيها السحب الكثيفة.

نقلا عن “الجزيرة العربية المستقلة”


شارك