مصطفى الفقي يكتب: سياسات إسرائيل.. مسارات متوازية

منذ 2 شهور
مصطفى الفقي يكتب: سياسات إسرائيل.. مسارات متوازية

أقول إن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية والعدوان الوحشي الذي أعقبها على لبنان والدول العربية الأخرى ستبقى في ذاكرة شعوب المنطقة لقرون قادمة. إنها حرب تجاوزت الحدود والأعراف وانحرفت عنها. إن المسار المعتاد للحروب الإقليمية والمواجهات العسكرية هي حرب يكثر فيها العدوان ومشاعر الانتقام والكراهية، وكثيراً ما نواجه عدم وجودها. حسابات موضوعية ودقيقة للقرارات التي حذر منها كل طرف، والتي أدت في النهاية إلى سفك الدماء، والخسائر السياسية، والدمار الاقتصادي الكبير، وتدمير المدن بالخرائب والركام، ووجع القلب الذي لا يزول مع مرور الوقت. إن قرار حركة حماس – مع اعترافنا الشرعي بالمقاومة المشروعة للاحتلال واتباع طريق الكفاح المسلح – كان في جانب منه التوقيت المناسب، إذ لم تكن الطريقة شائعة ولم تكن النتائج محسوبة، وبالتالي كانت الخسائر لقد كانت معاناة الأطراف الفلسطينية واللبنانية والعربية عموماً من هذه الحرب أكبر من كل التصورات وأكبر من كل التوقعات وأعطت إسرائيل مبرراً لارتكاب جرائم غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.

ونؤكد أنه في الوقت الذي ندرك فيه أيضًا أن مقاومة الاحتلال -أي احتلال- هي حق مشروع لمن اغتصبت أراضيه وتحول سكانه إلى مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين، إلا أن الخطوات المحسوبة والمواقف المدروسة تتطلب دائمًا مسافة بعيدة. – رؤية ثاقبة وحكيمة تتفحص الأحداث وتستقصي المواقف وتتخذ القرارات في الوقت المناسب. مقاومة الاحتلال ليست بالضرورة سيفاً أو مدفعاً، لكن في كل الأحوال يبقى الدعم السياسي أمراً ضرورياً يتقدم المسار، ويسحب قاطرة العمل الوطني على طريق يعترف بكل الأبعاد، يرى الآفاق باتساعها ويفهم كل ما يدور حولهم. لقد شكل الشعب الفلسطيني، ومن خلفه الشعب اللبناني ودول العراق وسوريا واليمن، جبهة مساندة في وجه الأسلحة الأميركية الغاشمة، والدعم الغربي اللامحدود، والغطرسة التي لا نهاية لها لرئيس الوزراء الإسرائيلي، جزار غزة قاتل الأطفال والنساء ومدمر جسور الإنسان التواصل وإمكانيات العيش المشترك ليست أبدية، لكن ما يزرعونه في النفوس ويدفنونه في الصدور هو أبدي وقد يصعب التعامل معه لوقت طويل. منذ وقت طويل.

ولعلي أود أن أبدي ملاحظات على هامش هذا العدوان الكبير والحرب غير المبررة وردود الفعل الإسرائيلية، التي تشكل جميعها، في نظر المجتمع الدولي، جرائم حرب، فأقول:

أولاً، حصاد ما حدث منذ 7 أكتوبر 2023، والذي أعطى إسرائيل فرصة لإظهار وجهها الدموي والعنصري والعدواني وذريعة للانتقام غير المسبوق من الشعب الفلسطيني، ستتذكره الأجيال الجديدة كجراح ستظل خالدة في الذاكرة. ولا شفاء ولا ينضب من مشاعر الظلم والشعور بالقمع من قبل أجهزة القمع. وسعت إلى فضح المجتمع الدولي والعديد من مؤسساته، وكذلك الحكومات الأمريكية المتعاقبة وحتى الحكومات الغربية بشكل عام، التي دعمت جرائم نتنياهو والممارسات اللاإنسانية وغير الأخلاقية لليمين المتطرف في إسرائيل. وإذا قلنا دائما أن الحروب ظاهرة مؤقتة وأن ذاكرة الشعب تعرف النسيان ولديها القدرة على المسامحة، إلا أن ما حدث يجعل يوم 7 أكتوبر 2023 يعادل 11 سبتمبر 2001، ليدرك الجميع أن الرغبة فالانتقام حلقة مفرغة لا تنتهي أبدًا.

ثانياً: الصراع مع إسرائيل له مسارات عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية متعددة، لكن يجمعها جميعها الحقد الأسود والغباء الشديد. وقد باءت بعض محاولات التطبيع، التي قامت على إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه والالتزام بالثوابت التي تغطيها شرعيته الدولية التي لا تعترف بإسرائيل وتخرج عن الأطر التقليدية، بالفشل. وحتى في تاريخ الحروب، يلاحظ أن سياسات إسرائيل تتحرك في عدة اتجاهات، في حين أن الاستطلاع والحرب النفسية وجمع المعلومات والأنشطة الاستخبارية كلها على الجانب الآخر، ولا يوجد تقاطع بين الاتجاهين. . فالأهداف بعيدة المدى، ولإسرائيل تصور تاريخي عدواني، فهي تهمل دائماً حقوق الشعب الفلسطيني وكرامة الشعب اللبناني وأمن بقية الشعوب العربية. لقد أتيحت لإسرائيل فرصة فريدة لتضميد الجراح ورأب الصدع، لكنها اختارت التمسك بأساليب الغطرسة والعدوان، فاغتيال القادة واصطيادهم كالطيور! وأدعي هنا أنني لا أتطابق مع سياسات حزب الله اللبناني وأساليب حركة المقاومة الإسلامية حماس، رغم أنني أعترف بحقهم في المقاومة طالما استمر الاحتلال الغاصب، ولكنني أهمس في أذن قادتهم أن للمقاومة أساليب مختلفة وأساليب معروفة، وهي ليست بالضرورة مواجهات عسكرية أو ميدانية، لكن من الممكن أيضاً اللجوء إلى أساليب أخرى تتيح للمقاومة تحقيق نتائج أكبر على المدى الطويل، بدلاً من الخطوات غير المحسومة أو دعونا ننظر إلى ليدرك ملايين النازحين واللاجئين على خريطة الوطن العربي أن حساباتنا ليست صحيحة دائمًا وأنهم أحيانًا يسيرون في مسارات غير مستكشفة وحتى على حسابات غير صحيحة اليد في النار، ولا أتخذ موقفاً تربوياً للمناضلين بعد أن دفع الفلسطينيون ومعهم بعض اللبنانيين ضريبة الدم، ومن الجيد أن يفكر الشهداء والجرحى والثكالى أحياناً بطريقة مختلفة. وأجد دائمًا مبررًا لمشاعر الحزن والأسى. إن ملايين العرب والأحرار في أنحاء العالم يعانون بعد أن طغت جرائم إسرائيل على جرائم أخرى أكبر في التاريخ لا يمكن لذاكرتها أن تنساها أو تتجاهلها.

ثالثاً: لا شك أن التوازن الإقليمي والاستقرار في الشرق الأوسط والعودة إلى الحياة الطبيعية سيستغرق سنوات، وقد لا يتحقق ذلك أبداً إذا استمرت سياسات إسرائيل كما كانت من قبل وبقيت الغطرسة ونشر الأكاذيب وترويج الافتراءات التي يتم الدفع بها. من قبل الدولة العبرية التي لا تريد العيش بسلام مع جيرانها، بل تتخيل أنها تستطيع من خلال القمع والعدوان والطغيان أن تجد لها مكانا على خريطة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي كنا نتحدث عنه منذ عدة سنوات، و والتي لا يمكن أن تقتصر على التعاطف الإنساني دون دعم سياسي. ولن تظل إيران الدولة التي تصدر الإيديولوجية الفارسية تحت ستار الإسلام، ولن يظل لبنان منقسماً من دون رئيس دولة وزعماء لبنانيين واعين، فلن يبقى الشعب الفلسطيني منقسماً فيما بينه على النحو الذي يجعل ذلك ممكناً لتفتيت المادة والقضاء على عناصر تماسكها وعوامل وحدتها.

سيظهر في هذه المنطقة من العالم شرق أوسط جديد، منطلقات مختلفة، ومظاهر مختلفة، وآفاق ممتدة، لا شك بعد تجربة الحرب المريرة وآثارها الدائمة، إلا إذا ظهر في إسرائيل جيل جديد يتحدث لغة مختلفة ويكون مدركين أن القوة والعنف والإرهاب ليست الوسائل الضرورية للمضي قدماً، بل التعاون والتعايش بسلام واستعادة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وللشعب اللبناني حقه في الاستقرار والكرامة. المكونات الأساسية لتشكيل المستقبل الذي نريده لأجيالنا القادمة.

هذه قراءة أولى لمسرح العمليات السياسية بعد انتهاء الانفصال العسكري وتوقف الطائرات عن إلقاء المتفجرات على الشعب والوطن، وتخرج من الركام أصوات جادة تطالب بالسلام والأمان، وترفض وتؤمن بالكراهية والعنف وحي آمن. هو الوسيلة الأفضل والطريق الصحيح لإرساء الحقوق وتأكيد الكرامة وفتح الأبواب أمام الشعوب لبناء مستقبل أبنائها وحياة أجيالها القادمة. الوتيرة السريعة للعنف والحروب قد تشير الأسابيع القليلة الماضية إلى أن الوضع على وشك التغيير، وأن الفصل يقترب من نهايته ولن تعود الأمور أبدا إلى المعاناة الكبيرة التي شعر بها الجميع في جميع دول وبلدان الشرق الأوسط . فلنبحث عن مستقبل أفضل لأبنائنا وأحفادنا ولمن يأتي بعدنا بعد كل هذا الدمار.

نقلا عن: المستقلة العربية


شارك