قهوجي قديم بين الذكريات والواي فاي: أن تحافظ على ماضيك في عالم لا يكف عن التغير
تصبح الأماكن جزءًا من قصة الشخص، مثل ذكرياته وأحلامه. ولم يتوقع خالد، الذي نشأ في حي الأزبكية، أن تصبح حياته معقدة إلى هذا الحد بين الأماكن التي يتنقل بينها. لقد غادر مصر بحثاً عن فرصة، وعند عودته كان عليه أن يتأقلم مع واقع لا علاقة له بماضيه أو بآماله.
“عم خالد”، عامل مقهى بسيط، نشأ في بيئة نشطة فيها الرياضة والعمل حتى يتمكن من العمل. أرسله والده “النجار الطموح” إلى مقهى صديقه المجاور للمنزل في سن مبكرة ليتعلم “قيمة الفلس” ويكتسب القوة في سن مبكرة. يقول عن تلك الأيام: «لم يكن لأبي تضييع وقت. ألا تحب النجارة؟ “بعت لك القهوة لعمك محسن.” كانت رائحة القهوة وضجيج الحديث يملأ الغرفة بينما كان خالد يسلم الطلبات ويحفظ قصص العملاء التي كانت جزءًا من ذاكرته.
كبر خالد وتحول المقهى من هواية الطفولة إلى حافز جعله متحمسًا لما هو قادم. رأى والده فيه إمكانيات أكبر من أن يقتصر على أزقة الحي، فشجعه على دراسة السياحة والفنادق: «كان والدي يقول لي دائمًا: لا أريد أن تنتهي طموحاتك عند القهوة». “هذا هو العمل. “إنه وقت الإجازة، ولكن أهم شيء أحتاجه هو الحصول على شهادة جامعية لأنها مفتاح مستقبلي.”
بعد تخرجه في منتصف التسعينيات، بدأ خالد يتطلع إلى الفرص التي يمكن أن تفتح له أبوابًا كانت مغلقة في وجهه. وبفضل دعم والده وتشجيعه المستمر، قرر مغادرة مصر. وجهته: فرنسا. وهناك بدأ من الصفر، حيث كان يعمل في مطعم متواضع ويكافح لساعات في ظل ظروف صعبة: “كنت أعمل 16 ساعة حتى أتمكن من كسب قرش، كما كان يفعل والدي”.
ومع مرور الوقت، بدأت الأمور تستقر. لقد تعلم اللغة وبدأت حياته المهنية تأخذ اتجاهًا مختلفًا. ثم قرر أن يخطو خطوة أكبر، فتزوج من امرأة فرنسية وأنجب منها طفلاً. لكن القدر جلب له مفاجآت لم يتوقعها: «فجأة أبلغوني بطردي رغم التزامي بعملي. صاحب المطعم تعرض لأزمة اقتصادية واضطر لتسريح الموظفين، وكنت من أوائل الذين تم تسريحهم. ربما لأنني عربي!
لم يكن فقدان وظيفته بمثابة نهاية حياته المهنية فحسب، بل كان أيضًا الشرارة التي أشعلت سلسلة من الأحداث غير المتوقعة. ودخلت علاقته بزوجته في نفق مظلم أدى إلى الانفصال. وبينما كان يعاني من الفقد والغربة، أصابته صدمة أكبر: «لدي اتصال من مصر. انزل، أبوك مات».
عاد خالد إلى وطنه في الألفية الأولى حاملاً معه الكثير من الأسئلة والآلام، ليجد أن الحي الذي كان مألوفاً له دائماً قد تغير جذرياً. بقي خالد في حالة من التشتت لمدة عامين، غير قادر على إيجاد معنى أو شغف لحياته. وبعد أن فقد وظيفته في فرنسا، وجد نفسه عالقًا بين صدمة الخسارة والصراع الداخلي حول مستقبله. حاول إعادة بناء حياته في أماكن مختلفة، لكن الأبواب ظلت مغلقة في وجهه: “كنت أضيع وقتي، لم أعرف من أين أبدأ ولا إلى أين أذهب حتى اللحظة التي زار فيها المقهى القديم”. مرة أخرى ووجد أن صديق والده عرض عليه إدارة المقهى. لقد كان عرضًا لم يتوقعه: “لم أعتقد أبدًا أنني سأعود إلى هذا المكان، لكنه كان بمثابة شريان الحياة”.
وبعد عودته إلى المقهى الذي نشأ فيه، ظن عم خالد أنه عاد إلى مكان مألوف. لكنه سرعان ما لاحظ أن شيئا مألوفا قد تغير. المكان الذي كان يرمز إلى الأمان والذكريات، أصبح الآن حقلاً لاختبار قدرته على التكيف مع الأوقات المتغيرة.
كان المجتمع أحد أكبر التحديات التي واجهها حيث كان يتعرض لضغوط مستمرة من الحملات والملاحقات القضائية. في بعض الأحيان كانت الغرامات تصدر لأسباب بسيطة، مثل تراكم الكراسي على الأرصفة: “في البداية لم أفعل ذلك، فداهموا فجأة وخسرت الكثير”.
ومع تغير الوضع، ظهرت تحديات جديدة، وألقت الأزمة الاقتصادية بظلالها على الجميع، وأصبح ارتفاع الأسعار أمراً شائعاً: «الأسعار ترتفع كل يومين، بالنسبة للقهوة والشاي واللبن، وحتى دبس السكر». كل زيادة ويخافون من دفع المال، لذلك ظل بعضهم يسأل عن سعر المشروب الأول قبل الطلب”.
يواجه خالد اختبارًا جديدًا؛ كيف يحافظ على الجودة دون رفع الأسعار، الأمر الذي قد يخيف العملاء؟: “لقد حاولت أن أكون مرنًا، ولكن كما تعلمون، مع ارتفاع الأسعار، لا أستطيع تحمل كل شيء من جيبي الخاص”.
يقول خالد إن إدارة المقهى لم تعد سهلة كما كانت من قبل. لم يعد الموظفون كما كانوا من قبل، حيث تضاءل الاهتمام بجودة الخدمة والأدب على ما يبدو: “العامل الآن مهتم فقط بهمومه اليومية. إلى أي مدى لن يكون لديه نفس الحماس أو الاهتمام بالمكان كما كان في السابق؟ أحاول أن أشرح له أن العميل ليس مجرد رقم، بل هو روح المكان ويجعلنا نشعر وكأننا جزء من العائلة وليس مجرد ضيف عابر.
وبعد أن استقر في المقهى الذي يحتل مكانة مهمة في منطقة الأزبكية، تزوج خالد من جارته التي تشاركه حبه لهذا المكان وجذوره. كان لديهم ثلاثة أطفال، الأمر الذي شكل تحديات جديدة لحياته عندما يتعلق الأمر بالموازنة بين العمل والأسرة. يقول العم خالد: «وسط تعب العمل وهموم الدنيا، ضحكات أطفالي هي التي تذكرني بأنه لا يزال هناك أمل في الحياة، مهما كانت الظروف صعبة، أحكي لهم عن جدهم الذي كان يدرس أعتقد أن الرجولة لا تتمثل في “الكلمات فقط، بل في الثبات في مواجهة كل أزمة”.
بالنسبة للعم خالد، كان العميل دائمًا جزءًا من الحياة اليومية للمقهى، وهو الشخص الذي شارك في خلق القصص والتجارب التي جعلت المكان أكثر من مجرد مقهى.
كان يجلس مع جيرانه لساعات، يتجاذب أطراف الحديث، ويناقش السياسة والرياضة وأحيانًا الأدب: “كنا نرى الناس يحملون الصحف والكتب ويكتبون مذكراتهم. وكان المقهى يتجدد كل يوم بالحكايات”.
ومع مرور الزمن وظهور التقنيات الحديثة تغيرت أجواء المقهى عما كانت عليه من قبل. لم يعد العملاء كما كانوا من قبل: “لقد تغير العالم ولم يعد يجلس مع هواتفهم المحمولة. أول شيء يسألونه هو: هل لديك واي فاي؟ حتى عندما تجلس معًا، يبقى الجميع على حالهم.”
العم خالد لا يخفي حنينه للأيام الماضية. ورغم أنه يدرك أن على العملاء اليوم مواكبة العصر، إلا أنه لا يزال يأمل في أن يعود العميل الذي يجلس مع كتاب أو صحيفة ويتناقش مع أصدقائه ومن لا يعرفه حراً متحمساً.
فهل يحتفظ المقهى الذي يحمل تاريخا طويلا مليئا بالذكريات بروحه في مدينة تلتهم القديم بلهفة؟ فهل لا تزال ملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن السلام والهدوء؟ وأمام هذه الأسئلة، يحاول خالد مواكبة الواقع الجديد: «كان عليّ أن أوازن بين الجيلين الذين جلبتهم موسيقيين لاستعادة الروح القديمة للمكان، وفي الوقت نفسه اتصلت بالواي فاي وأنشأت ركن للأشخاص الذين أرادوا مشاركة صورهم عبر الإنترنت وتجربة اللحظة بطريقتهم الخاصة.
يحافظ العم خالد على مكانته في قلوب عملائه وجيرانه على حد سواء. يقول أحد زبائنه الدائمين: هذا المكان ليس مجرد مقهى، هذا هو بيتنا الثاني. “خالد دائما طيب مع الجميع ويعرف كيف يتعامل مع الجميع حسب مزاجه.” وبالنسبة لأهل المنطقة فهو يعتبر رمزا للشجاعة، حيث يقول أحد جيرانه: “خالد رجل حقيقي”. ومع مرور الوقت، يقف دائمًا إلى جانب الناس، حتى عندما يضغط عليه العالم”.
بين ارتفاع الأسعار وصعوبات الإدارة وزيادة الرسوم والحملات البلدية وتغير مزاج العملاء وجودة القوى العاملة، حاول خالد التكيف مع الحاضر. وعلى الرغم من كل هذه التغييرات، ظل وفيا لفلسفته الخاصة التي تلخص رحلته الطويلة: “العمل ليس مجرد أكل وشرب ولباس. العمل هو تفاصيل الحياة، أشياء صغيرة تجعلك تشعر بأنك حي وحاضر بين الناس.