محلل سياسي: ترامب يتحدى النظام العالمي

منذ 3 ساعات
محلل سياسي: ترامب يتحدى النظام العالمي

رغم أن الشهر الأول من ولايته الثانية لم ينته بعد، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصبح بالفعل في مواجهة مع كل دول العالم تقريبا ــ سواء كانت معادية أو صديقة أو حتى حليفة. والآن يقول كثيرون إن الرئيس الأمريكي يشكك في النظام العالمي الذي كان قائما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وقال المحلل السياسي أحمد الشرع، رئيس تحرير مجلة جيروزالم ستراتيجيك تريبيون وعضو مجلس إدارة المجلس الأطلسي ومعهد أبحاث السياسة الخارجية، في تحليل نشره في مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية، إن ترامب ينتهك بشكل جذري العقائد التقليدية للسياسة الخارجية الأميركية، والمعروفة منذ فترة طويلة باسم “إجماع ما بعد الحرب”. بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت أفكار عدد قليل من مدارس الدراسات العليا طريقها إلى جامعات آيفي ليج الأمريكية المرموقة، وتم ترسيخها بعد ذلك في مؤسسات وطنية ودولية (ممولة من الولايات المتحدة). ورغم أن السياسيين الأميركيين ما زالوا يستحضرون إحدى هذه الأفكار أو الأخرى باعتبارها حلاً سحرياً، فإنهم لا يشككون أبداً في “الإجماع” نفسه أو المؤسسات المرتبطة به. ولقد أصبح هذا “الإجماع” بمثابة شعار لصناع القرار الأميركيين.

في الواقع، في ولايته الجديدة، وبعد فوز انتخابي ساحق وعودة سياسية لا تنسى، يستطيع ترامب أن يشكك في الإجماع والمؤسسات، ويزعم أن نتيجة الانتخابات تجبر الجميع على التساؤل عما إذا كان المواطنون الأميركيون لا يريدون الاستمرار في نفس السياسة التقليدية.

ويقول أنصار ترامب إن ابتعاده عن هذه السياسات التقليدية هو تعبير عن “الفطرة السليمة”، في حين يصفه معارضوه بأنه “فوضى”.

ويقول الشرعي، عضو مجلس إدارة المجلس الاستشاري الدولي في معهد السلام الأميركي، إن “تقليص ترامب إلى مستوى الطاغية المنتقم هو خطأ تحليلي”. إن مجرد السعي للانتقام الشخصي لن يجعلك تكسب ملايين الأصوات. إن جاذبية ترامب لا تستند إلى عقيدة سياسية كانت تهيمن في وقت ما على الحياة الأميركية: وهي أن القيادة الأميركية يجب أن تتبع المثل العليا اللائقة والعميقة لشعبها.

وهذه الفكرة تحظى في الواقع بموافقة الحزبين، وقد تجد في يوم من الأيام دعماً من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. كانت فكرة أن القادة يجب أن يتبعوا شعوبهم هي المبدأ التوجيهي للسياسة الخارجية لروزفلت وترومان في الحرب ضد الشيوعية وفي خلق “إجماع ما بعد الحرب” للمؤسسات التي من شأنها ضمان التجارة الحرة والسلام العالمي. وكانت هذه الأفكار، ولا تزال، تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، ولا تزال تمثل الصورة الذاتية التي تحب الولايات المتحدة تصويرها.

هناك اعتقاد واسع الانتشار يستغله ترامب، مفاده أن المؤسسات التقليدية لم تعد تساعد في تعزيز الرخاء الأميركي والعالمي، ولم تعد قادرة على وقف انتشار الأيديولوجيات المتطرفة التي تؤدي إلى الفقر والنزوح والفظائع. وبدلاً من ذلك، يزعم ترامب أن المؤسسات متحيزة ضد العمال الأميركيين وأن قادتها يستسلمون بسهولة للطغاة والإرهابيين في العالم.

ولا بد من الاعتراف بأن “تطرف” ترامب أنهى حالة الشلل التي عانى منها الدبلوماسيون والسياسيون الأميركيون بشأن بعض القضايا لعقود من الزمن. وفي حين ظل آخرون محاصرين باللغة الجامدة والتنازلات العقيمة، فرض ترامب البراجماتية الوحشية وأجبر الآليات المؤسسية على التبديل. ويقول أحمد الشرعي إن أي شخص يصفه بالساذج أو القابل للتلاعب يرتكب خطأ فادحا ويقلل من شأن الغريزة السياسية الهائلة التي يتمتع بها ترامب.

ولكن ترامب ليس مجرد محرض لا يرحم، بل إنه يعزز حضوره باعتباره استراتيجيا لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وقدرته على جذب الرأي العام وقلب القواعد التقليدية رأسا على عقب تجعله سياسيا فريدا من نوعه.

في واقع الأمر، أسلوبه، الذي يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه فوضوي، هو في الواقع سلاح تكتيكي: من خلال زيادة الفوضى الظاهرة، فإنه يفاجئ خصومه ويجبرهم على الرد بسرعة بينما يفرض إرادته عليهم بشكل منهجي. وهذه هي خصوصية ظاهرة ترامب: رجل يعيد كتابة قواعد اللعبة من خلال تحدي التوقعات. بالنسبة لجزء كبير من الأميركيين، فإن ترامب هو المنقذ الإلهي الذي سيعيد الولايات المتحدة إلى عصرها الذهبي المفقود – وهو الوعد الذي يؤكده مرارا وتكرارا.

في الوقت نفسه، يدرك ترامب أن الوقت ضدّه وأن الأشهر الأولى من ولايته حاسمة: عليه أن يحقق نجاحات واضحة لأنه إذا لم يفِ بوعوده فإن السيطرة على الكونجرس ستنتقل إلى خصومه في انتخابات التجديد النصفي المقررة في عام 2026، وهو ما من شأنه أن يعيق أجندته التشريعية. حتى الآن، ظل ترامب صادقا مع نفسه. وبجرأة لا توصف يدافع عما يعتبره الأفضل لبلاده، ولا يتردد في انتهاك قواعد الصوابية السياسية المعمول بها في واشنطن وفي الهيئات الدولية، دون أن يتوقف عند صرخات تلك الدوائر، لأنه في الحكم لا يعتمد على موافقتهم بل على موافقة قطاع كبير من الأميركيين العاديين الذين صوتوا له بكل سرور.

وقد ساهمت ثلاث حالات حديثة بشكل خاص في تأجيج الجدل المحيط بترامب، وأكدت مرة أخرى رؤيته غير التقليدية. وتتعلق الحالة الأولى بكندا، حيث أشار ترامب إلى عجز تجاري يزيد عن 200 مليار دولار سنويا. ورغم أن مثل هذه الملاحظات مؤثرة، إلا أنها لا ينبغي أن تكون مفاجئة. لماذا تستمر الولايات المتحدة في دعم هذا الخلل الاقتصادي دون أن تحاول تصحيحه؟ إن ترامب ليس ساذجًا على الإطلاق في تحليلاته، وهو يندد بنظام يتم فيه التضحية بالمصلحة الوطنية على مذبح التسويات التجارية.

أما الحالة الثانية فهي حرب أوكرانيا. ويبدو أن ترامب عازم على عدم السماح باستمرار هذا الصراع إلى أجل غير مسمى. إن عدد القتلى والجرحى والنازحين بسبب الحرب هائل. وهناك أيضًا خسائر في إنتاج الغذاء والأسمدة لعالم يعاني من الجوع، وكذلك في إنتاج المعادن اللازمة للاستخدام الصناعي في جميع أنحاء العالم. كل هذه الخسائر غير محتملة، لأنه، وفقا لترامب، يجب استخدام هؤلاء الأشخاص والمواد لاستعادة الرخاء للشعبين الأوكراني والروسي، وليس لمواصلة تدميرهما المتبادل بلا معنى. قد يبدو هذا النهج بارداً ببساطة لأنه يفتقر إلى دفء المثل العليا مثل تقرير المصير والحرية الفردية. ولكنها تعكس رؤية جيوسياسية براجماتية تسعى إلى كسر دائرة الصراع الذي لا نهاية له ولا حل.

وفي الختام، في حين يثير ترامب أسئلة صعبة حول مؤسسات الولايات المتحدة وأدائها، فقد حان الوقت للعالم أن يفعل الشيء نفسه. لأن الإجابات على هذه الأسئلة، والتي قد تصدم الطبقة السياسية، سوف تحفز الناس على التغيير وتمهد الطريق لعالم جديد وأكثر ازدهاراً.


شارك