أحمد زكارنة يكتب: صراع الإرادات بين التَّصفية التَسوية

منذ 26 أيام
أحمد زكارنة يكتب: صراع الإرادات بين التَّصفية التَسوية

تؤكد العديد من القصص أن الحكيم هو الذي يدرك أنه لتحقيق الحرية يجب استخدام العقل وليس اليد، لأن المعارك الكبرى لا تُحسم بنجاحات الآلة العسكرية، بل بما تستطيع الأساليب السياسية تحقيقه.

وهنا نرى الصراع المرير بين محاولات الصهيونية العالمية تصفية القضية الفلسطينية ومواقف المجموعة العربية التي تطالب بمنع هذه التصفية بل وترد على كل هذه المحاولات ليس فقط بمعنى انتصار القضية الفلسطينية بل أيضا بمعنى الحفاظ على بنيتها الاجتماعية وأمنها القومي الاستراتيجي.

ولكي تتحقق مثل هذه التطلعات في ظل وجود زعيم يختلف عن المعايير المقبولة لدى القوى العظمى، مثل الرئيس الأميركي ترامب، فلا بد أن تسعى المجموعة العربية إلى تغيير البيئة السياسية المحيطة بالصراع في الشرق الأوسط. ومن الصعب تحقيق هذا الهدف دون تفعيل أوراق الضغط التي تمتلكها دول المنطقة والتي يمكن استخدامها لتحقيق الهدف المنشود. وهذا على افتراض أننا قمنا بتشخيص احتياجات ترامب ومخاطر نتنياهو بشكل جيد، بالإضافة إلى نوع الأوراق التي يجب وضعها على الطاولة لعزل الخيارات المقدمة.

ولكن تغيير البيئة السياسية ليس ممكناً ولا قابلاً للتنفيذ من دون بلورة رؤى قادرة على تحقيق حد أدنى على الأقل من التداخل بين مصالح الأطراف الدولية والمصالح العربية. كل من هذه الأحزاب لديها قضاياها الخاصة، والتي تعتبرها أيضاً قضايا مهمة، مثل الحزب الصيني والروسي والأوروبي، ولكن ليس هذه فقط. لكن الفرصة هنا تكمن في سياقين أساسيين. إن السبب الأول يتعلق بتصورات وممارسات البيت الأبيض تجاه العديد من الأطراف الدولية الأخرى، وانتهاكه لكل القوانين والأعراف المعمول بها في الدبلوماسية الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. ولا يتعلق الأمر فقط بتصريحاته بشأن كندا وقناة بنما وجرينلاند وغزة، بل أيضاً بعدوانه على المؤسسات والأنظمة الدولية، خاصة القانونية والإنسانية منها، وملف الهجرة، وزيادة معدلات الضرائب على المعاملات التجارية، والملف الاقتصادي، وغير ذلك من الأمور التي تؤكد أن هذا الرجل وفريقه يحاولون تغيير وجه العالم وطريقة تعامله مع مشاكله الداخلية والإقليمية والدولية.

ومن ناحية أخرى، علينا أن نتذكر القوة التي نملكها لتغيير العلاقات الدولية في المنطقة وخارجها، خاصة وأن عدداً من الدول العربية مسؤولة عن تأمين طرق التجارة العالمية. فضلاً عن الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، فهي منطقة ذات إمكانات نفطية هائلة لا ينبغي الاستهانة بها، وهي شريك مؤسس لعدد كبير من المنظمات والمجموعات الراسخة والناشئة والنامية مثل أوبك والبريكس ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من المجموعات الإقليمية والدولية. هذا بالإضافة إلى أهمية معاهدات السلام المبرمة بين مصر والأردن من جهة، و”دولة إسرائيل” من جهة أخرى، إذ كان المستفيد الأكبر من هذه المعاهدات هو وما زال إسرائيل، التي حصلت على العديد من المزايا العظيمة، مثل: ب. إن إخراج دولة بحجم مصر وقدراتها من دائرة الصراع المسلح وتأمين كافة حدود الأردن يشكل تهديداً وشيكاً ليس في التجارة والنفط فحسب بل وفي مجالات أخرى أيضاً. لكن الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة تصل إلى مليارات الدولارات، وتشمل العديد من القطاعات والصناعات المهمة. وتشمل أهم القطاعات النقل والأنشطة التجارية وتكنولوجيا المعلومات والعقارات والأغذية والمشروبات والفضاء والطاقة المتجددة. ومن المؤكد أن التوترات في هذه المناطق ستؤثر أيضاً على استقرار الدولار.

إن عقلية مثل عقلية رجل الأعمال ترامب، صاحب شعار “أميركا أولاً”، لا تحتاج إلا إلى النظر إليها من نفس المنظور، أي من منظور المصالح التي تتعارض مع بعض المفاهيم التي ينادي بها الرئيس رجل الأعمال، والتي تغذي الصراع في المنطقة، وتتداخل مع مفاهيم أخرى مرتبطة أيضاً بطموحات اقتصادية وأمنية استراتيجية. وهذا يوضح لنا ماذا تعني رهانات نتنياهو، بعد أكثر من عام من الوحشية التي حولت فائض القوة إلى عجز أمني، لننظر إليها ونفحص مدى توافق هذه الرهانات مع الرؤى الأميركية، وكذلك مدى قدرة العرب على مواجهتها وصد طموحاتها الجامحة. وهذا يضع القضية برمتها بين محاولات التصفية وإمكانيات الحل، وهو الأمر الذي يتعين علينا أن ندركه جيداً. ومن المؤكد أن هذا الصراع يتكون من صراعين: صراع إرادة وصراع رواية. إذا كانت الإرادة موجودة، يتم وضع القواعد الأولى للسرد.

* كاتب وباحث وإعلامي فلسطيني


شارك