وفاء صبري تكتب: طوفان الأقصى….نصر أم هزيمة؟

منذ 6 ساعات
وفاء صبري تكتب: طوفان الأقصى….نصر أم هزيمة؟

عندما تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ودخول صفقة تبادل الأسرى حيز التنفيذ يوم الأحد 19 يناير/كانون الثاني 2025، اختلفت الآراء حول ما إذا كان هذا يعتبر انتصاراً أم هزيمة لحماس. وحمّل كثيرون، رسميون وشخصيون، حماس وزعيمها يحيى السنوار، الذي خطط لعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مسؤولية الإبادة الجماعية والقتل والدمار الذي جلبته على غزة وشعبها. هل أخطأ يحيى السنوار عندما نفذ عملية 7 أكتوبر؟

تبادرت إلى ذهني عدة مشاهد وتجارب شخصية أجبرتني على الإجابة بوضوح على هذا السؤال.

المشهد الأول – أكتوبر 2022:خلال زيارتي للقدس، التقيت منصور، وهو شاب فلسطيني استضافنا بلطف في المقهى الذي يعمل فيه في أحد شوارع البلدة القديمة، حتى نتمكن من الاحتماء من البرد القارس باستخدام مدفأة في المقهى. سألته عن مدى صعوبة العيش في ظل وجود الشرطة الإسرائيلية المدججة بالسلاح في كل زاوية وشارع. لقد وجدت هذا الأمر مخيفًا ومستفزًا ومؤلمًا للغاية عندما ذهبت للصلاة في المسجد الأقصى أو عندما كنت أسير في المدينة وأمرر أمام براميل البنادق على جانبي كل بوابة في القدس. أجابني منصور بأنه فتى صغير من أطفال الحجارة (أطفال كانوا يرشقون المحتل الصهيوني بالحجارة في ما يسمى انتفاضة الحجارة 1987-1992)، ثم رأى أنه متأثر بآلية الدعاية الصهيونية. بدأ منصور ـ الذي يبدو أنه لم يحالفه الحظ باسمه ـ يعيش على أرضه وأرض أجداده مهزوماً، وفوهة البنادق موجهة إلى كل شارع، وحواجز الأمن المضايقة والمذلة في كل زاوية، والتي كانت حاضرة في كل يوم كنت فيه، وفي كل مدينة… -أساساً- وفي ما كتبته عن جرائم القتل، قتل “عدد” من الفلسطينيين أو اعتقالهم من قبل شرطة أو جيش الاحتلال الإسرائيلي. خلال زيارتي تكررت المشاهد التي لا تغادر ذهني… إعلان السائق: “لا نريد المرور من هنا، الطريق مغلق، قتلوا سبعة أو ثمانية شباب… هذا يحدث كل يوم، الله يخليهم من هنا”. وفي حادثة أخرى، أثناء زيارتنا للمسجد الإبراهيمي ــ موطن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته وأولاده، والذي صادرت إسرائيل جزءاً كبيراً منه وتمنع المسلمين مراراً وتكراراً من الدخول إليه ــ حذرنا الدليل ذو المظهر القلق بشكل غير عادي: “امشوا بهدوء بجانبي ولا تنظروا إلى اليمين أو اليسار. “إن شاء الله ندخل ونخرج من الخليل بسلامة.” وأعرب لنا لاحقا عن قلقه قائلا إن الجيش الإسرائيلي أطلق النار على رجل فلسطيني في الثلاثينيات من عمره لأنه حاول إخراج مظلة من جيبه لحماية نفسه من المطر. لقد قتلوه قبل دقائق قليلة في نفس المكان الذي مشينا فيه بين فوهات البنادق لدخول المسجد. في طريق العودة من الخليل إلى القدس، مررنا بمنطقة سكنية بأكملها يسودها هدوء مخيف، وكأن سكانها غادروها على عجل. لا تزال الملابس معلقة على شرفات المنازل، وألعاب الأطفال ملقاة أمام الأبواب. إنه مشهد مرعب، وقد فهمت أهميته عندما أوضح لي الدليل أن الفلسطينيين طردوا بالقوة من هذا الحي من أجل بناء مستوطنة إسرائيلية مكانه، وأن هذا أصبح ظاهرة يومية تحدث مرارا وتكرارا في جميع أنحاء فلسطين، حتى في المنطقة (أ)، التي تقع بالكامل تحت سيطرة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو.

المشهد الثاني – أكتوبر 2015: محاضرة في جامعة تورنتو في كندا حول الجرائم التي ارتكبها المهاجرون البيض، “المستوطنون”، ضد السكان الأصليين، أو كما يتم تصنيفهم ويطلق عليهم في كندا اليوم: الأمم الأولى، الإنويت والميتس. خلال هذه المحاضرة، شاهدت تسجيلاً للاعتذار الرسمي الذي قدمته الحكومة الكندية لرئيس الوزراء ستيفن هاربر في يونيو/حزيران 2008. حيث خاطب 1.3 مليون من السكان الأصليين وطلب منهم المغفرة عن الظلم والقمع الذي عانوا منه لأكثر من 150 عاماً. وقال: “إن ذكرى المدارس الداخلية حيث تم فصل الأطفال قسراً عن عائلاتهم لعزلهم عن ثقافتهم وتغيير هويتهم تقطع مثل السكين في أرواحنا ونأمل أن يمثل هذا الاعتذار نهاية فترة مظلمة في التاريخ الجماعي للشعب الكندي”. وتحدث المتحدث عن الآثار النفسية والتشوهات التي أحدثتها سياسة عزل الأطفال الأصليين، حيث لم يحتفظوا بهويتهم ولم يتمكنوا من الاندماج في مجتمع المهاجرين البيض الجدد، لا هذا ولا ذاك، على الرغم من كل الاعتذارات والامتيازات التي تقدمها لهم الحكومة الكندية الآن بعد مئات السنين كتعويض عن الجرائم التي ارتكبت في حقهم.

المشهد الثالث – أكتوبر 2023 إلى مايو 2024: يزين العلم الفلسطيني واجهة أحد المباني المطلة على الساحة الرئيسية للجامعة الأميركية في القاهرة، ويتجمع الطلاب في الحرم الجامعي كل يوم للتنديد بالإبادة الجماعية والجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وتمتلئ ساحة الجامعة باللافتات الداعمة للمقاومة والطلاب الذين يبيعون زجاجات المياه بسعر مضاعف لجمع التبرعات للمساعدات الإنسانية لأهل غزة. كما أنهم يمنعون الشركات الداعمة لجيش الاحتلال من المشاركة في الفعاليات الجامعية. إن أبنائي وأصدقائهم وطلابي في الجامعة، الذين درسوا للأسف في مدارس دولية خاصة داخل مصر وخارجها، لم يدرسوا تاريخ مصر والعالم العربي كما درسناه نحن، ولم يشهدوا أغلب أحداث الصراع العربي الإسرائيلي. ويتفاعلون مع الأحداث ويدعمون المقاومة الفلسطينية بحماسة، بشكل يتحدى سنوات من التعتيم الإعلامي ومحاولات غسل الأدمغة والتغريب ومحو الهوية العربية والتطبيع التي رافقت طفولتهم ومراهقتهم. لقد تفاجأت وسعدت بظهور الوعي والحماس والفهم للقضية الفلسطينية! لقد كان هذا الوعي غائباً لدى العديد من أفراد الجيل الأكبر سناً الذين صدقوا الشعارات “الفلسطينيون باعوا أرضهم” والدعوات “هذا ليس من شأننا… دعونا نبني بلدنا”. لقد أصبح الجيل زد (الجيل الذي ولد في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين)، ليس في العالم العربي فحسب بل على مستوى العالم ومن كل الخلفيات الاجتماعية والثقافية، على وعي بالقضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر بطرق لم تكن متوقعة. ولم نكن لنسعى إلى تحقيق ذلك من خلال المناهج الدراسية أو أي نظام إعلامي ـ حتى لو أردنا ذلك وحاولنا. لقد شاهدنا المظاهرات والاعتصامات الطلابية في كل بلدان العالم الغربي وفي قلب الصهيونية في نيويورك وبقية الولايات الأميركية.

المشهد الرابع – يونيو 2024:أنا مسؤول عن الاعتصام الطلابي في جامعة تورنتو في كندا والذي بدأ قبل ثلاثة أسابيع تضامناً مع فلسطين. أثناء سيري في شوارع المدينة، صادفت رجلاً كنديًا أبيض اللون يقف أمام مبنى بنك نوفا سكوشا حاملاً العلم الفلسطيني ولافتة تدعو إلى مقاطعة البنك بسبب تورطه في دعم جيش الاحتلال الإسرائيلي.لقد أعطاني شارات صغيرة عليها العلم الفلسطيني وشعارات “حرروا فلسطين” و”أوقفوا الإبادة الجماعية” لأعلقها على ملابسي. فحمل الكثير منها ووزعها على المارة. تفاجأت وسألته من أين حصلت على كل هذه الأعلام والشارات لفلسطين. لقد فوجئت عندما أخبرني أنه يصنعها بنفسه في المنزل ويطبعها في مطبعة تقع في زاوية الشارع التي أشار إليها. كل صباح يقف هناك لتوزيعها على المارة.ودعاني للمشاركة في المظاهرات الداعمة لفلسطين والتي تقام كل سبت وأحد في ساحة دونداس وفي عدد من الشوارع الرئيسية في المدينة. تحدثت معه وبدأ يشرح لي بحماس لا يقل عن حماس المقاومين أنفسهم عدالة القضية الفلسطينية وألمه من أن أية مؤسسة كندية لعبت دوراً في الإبادة الوحشية للشعب الفلسطيني. قاطع حديثنا امرأة كندية بيضاء أهانته ووصفته بالجاهل. فأجاب: أنت من تستحق هذا الوصف لأنك لم تقرأ القصة.. اقرأ واعرف الحقيقة أولاً!بعد هذه المشاهد، هل أخطأ يحيى السنوار عندما نفذ عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول؟نعم، سقط أكثر من سبعين ألف شهيد وأكثر من مائة ألف جريح فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، ودمرت منازل ومستشفيات غزة نتيجة حرب الإبادة والمقاومة التي أعقبت عملية السابع من أكتوبر. ولكن هل نال شعب حريته وعادت أرضه دون تعويض؟ هل هناك ثمن لتحرير أي شعب؟ وهذا هو الثمن الذي قبله شعب غزة. رأيناهم يشكرون الله على استشهادهم ويدفنون جثث أبنائهم وأقاربهم بإيمان وقوة أذهلت العالم، معلنين أنهم مستمرون في مقاومتهم. ثم رأيناهم يعودون سيرًا على الأقدام إلى غزة المدمرة بالآلاف ــ وهو مشهد مهيب أذهل العالم، وفوق كل ذلك أحزن عدوهم الذي اعترف بالهزيمة أمامهم. فكيف يمكن لأي متفرج أن يقرر نيابة عنهم أن تضحياتهم لم تكن مبررة؟!في مواجهة الاستعمار الدموي، هل هناك بديل لأصحاب الأراضي سوى المقاومة؟ لقد خسرت ليبيا ربع مليون شهيد، وخسرت فيتنام ما يقرب من ثلاثة ملايين، وخسرت كوبا نصف مليون، وخسرت الكونغو حوالي عشرة ملايين. لقد سقط مليون ونصف المليون شهيد في حركة المقاومة بالجزائر، مقابل 28 ألف شهيد في الجيش الاستعماري الفرنسي. هل من المعقول مقارنة خسائر جيش منظم مدعوم من جيوش العالم الغربي بخسائر حركة المقاومة؟ هل من الصواب أن نستبدل مبادئ الحرية بتوازن الربح والخسارة؟ هل تقيس المقاومة باستخدام الأرقام؟تقوم إسرائيل بقتل وسجن وطرد وتدمير منازل الفلسطينيين بشكل يومي. في صمت قبل السابع من أكتوبر. وكان المصير المتوقع هو إبادة الشعب الفلسطيني على مراحل عدة وتآكل أرضه تدريجيا، حتى يتمكن الكيان الصهيوني من ابتلاعهم جميعا، ويصبح الفلسطينيون يوما ما مثل الهنود الحمر أو سكان كندا الأصليين، الذين لم يتلقوا بعد مئات السنين سوى الشفقة أو الاعتذار. إن الموت والدمار ما زالا على حالهما، وإن كانا يتسارعان الآن، إلا أنهما هذه المرة نتيجة مقاومة مشروعة ومستحقة ملأت عيون وآذان العالم أجمع، سعياً لإحياء القضية الفلسطينية بعد موتها على أيدي التطبيع العربي وآلة الإعلام الصهيونية وشبكات مصالحها الواسعة. وإزاء كل ذلك، نجحت المقاومة في خلق تعاطف واسع النطاق ووعي غير مسبوق بحقوق الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم، وهو ما لم نكن لنتمكن من تحقيقه حتى في أكثر أحلامنا طموحاً.وقرر السنوار وشعب غزة مواصلة الصمود والتضحيات حتى لا يبقى شعب غزة مضطرا لمواصلة العيش في سجن كبير تتقلص مساحته بسبب توسع المستوطنات الصهيونية ويضيق أكثر فأكثر مع مرور الوقت. ولن تتضاءل أعدادهم حتى مع عمليات الاغتيال الممنهجة المستمرة والاعتقالات بالآلاف، حتى اختفوا وأصبحوا شعباً مفقوداً وأقلية مهانة في بلدهم أو مكان منفاهم.لقد قررت المقاومة وشعب غزة عدم ترك القضية الفلسطينية تموت أو تنسى. لقد قرروا أن العالم يجب أن يعرف الحقيقة وأن الأجيال الجديدة يجب أن تفهم عدالة قضيتهم وأن يكونوا كباراً فوق الأرض أو صغاراً تحت الأرض حتى لا يصبح شباب ورجال ونساء غزة مثل “منصور” الفلسطيني المهزوم المستسلم!


شارك