رمضان بين العهدين.. كيف اختلف الشهر في حواري دمشق من حكم الأسد للشرع؟

منذ 2 ساعات
رمضان بين العهدين.. كيف اختلف الشهر في حواري دمشق من حكم الأسد للشرع؟

بين هلال مضى وهلال جديد، يستقبل أهل بلاد الشام شهر رمضان هذا العام بطريقة مختلفة عما اعتادوا عليه منذ عقود منذ سقوط نظام حزب البعث في سوريا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول. ويعيش سكان دمشق على وجه الخصوص حالياً تغييراً غير مسبوق، إذ يتركون وراءهم سنوات العزلة التي فرضها عليهم نظام الأسد، ويعيشون حياة مختلفة تماماً عن تلك التي تنتظرهم هذا الشهر.

في الماضي، لم تكن زهراء، ابنة مدينة دوما على مشارف دمشق، قادرة على المشي بأمان كما تفعل اليوم من دون أن توقفها قوات الأمن عند نقطة التفتيش التالية، حيث تكشف وجهها لأنها ترتدي “نقابًا”. وانتهى الأمر بوقوفها عند نقطة التفتيش الأمنية لساعات وهي تخضع للاستجواب من قبل أفراد الأمن. لكن الآن لم يعد هناك حاجز بين مخرج زهراء ودمشق ـ معقل النظام السابق نفسه ـ يمنعها من التجول بحرية.

حتى ملابسهم لم تكن بمنأى عن القمع. تعرضت زهراء لقيود صارمة بسبب ارتدائها النقاب. وأُجبرت على إظهار وجهها عند كل نقطة تفتيش أمنية، وتم احتجازها من قبل المسؤولين حتى قرروا الإفراج عنها. وكان الوضع أسوأ في مركز الاحتجاز، حيث تم احتجازها دون توجيه تهم واضحة إليها. وتعرضت لمضايقات لفظية من قبل المحققين الذين سخروا منها لتغطية وجهها، بل وأجبروها على نزع الغطاء بالقوة.

قبل بضع سنوات، اعتقلت زهراء البالغة من العمر 39 عاماً مع نساء أخريات بعد اتهامهن بتهم كافية لإبقائهن في سجون النظام مدى الحياة. جاء ذلك بعد اعتقالها أثناء زيارتها لزوجها الذي اعتقلته قوات الأمن أيضاً أثناء سيره في أحد شوارع دمشق، بعد أن أوقفته قوات أمن النظام ووجدت أن بطاقة هويته تشير إلى أنه سني وليس علوياً كما هو الحال مع الطائفة التي ينتمي إليها نظام دمشق.

0

“إن أهل السنة من الذين لعنهم الله”، هكذا وصفت زهراء حياتها في دمشق في عهد النظام السابق. وكانت معتادة على السيطرة والتضييق في أبسط الأمور لأن النظام كان يتبع النهج الطائفي. وفي كل نقطة تفتيش، كان عناصر الأمن يجبرونها وآخرين على النزول من سياراتهم فقط للتأكد من قسم الانتماء الديني في بطاقات الهوية الخاصة بهم. وإذا صادفوا سنيًا فإنهم يقطعون طريقه بينما يستطيع الآخرون المضي قدمًا دون عائق. أما اليوم فلم يعد هذا الوضع موجوداً، كما تقول زهرة، التي لم تعد تشهد حوادث من هذا النوع.

إن القيود الأمنية لم تعد تشكل مصدر قلق بالنسبة لزهراء وغيرها الآن بعد أن أنهى النظام العلوي حربه المستعرة ضد السنة. لكن الوقت الذي أمضته في سجون الأسد محفور في ذاكرتها. بدأ الأمر بدلو الماء البارد الذي كان يرش على جسدها كل صباح، دون التمييز بين الصيف والشتاء. وفي فصل الشتاء، كان المعاناة تزداد سوءا بسبب فتح فتحة تهوية في سقف الزنزانة للسماح بدخول الهواء البارد.

رمضان هذا العام له جاذبية خاصة بالنسبة لزهراء، خاصة أنه يقع في دمشق ولا توجد سجون حيث جربت الصيام خلال شهر رمضان. وكان آخر هم النظام السابق هو الصيام في السجون. لكن هذا لم يمنع زهراء من الصيام وإخفاء الطعام الفاسد الذي أعطاه لها حراس السجن في زنزانتها حتى لا يتمكنوا من رؤيته حتى يأتي وقت الإفطار. ثم أخرجت ما كانت قد أخفته وأفطرت.

0

أدى اعتقال زهراء وزوجها إلى ترك أطفالهم الأربعة دون معيل في منزلهم بدمشق، لدرجة أن جدهم الذي قارب الثمانين من عمره بدأ بتقديم طلبات للحصول على أوراق لوضعهم في دار للأيتام، رغم أنه لم يعد قادراً على رعايتهم بسبب تقدمه في السن. لكن إطلاق سراحهم ضمن اتفاق تبادل مع المعارضة السورية حال دون تشريد أطفالهم.

الحدث الأبرز في رمضان هذا العام هو اختفاء الحواجز بين زهراء وباقي أفراد عائلتها وعائلة زوجها الذين كانوا في مدينة دوما. تعرضت هذه المدينة لحصار شديد من قبل النظام السابق حتى تمكن من اقتحامها في عام 2019. وعندما خرجت زهراء من السجن، اكتشفت أن عائلتها غادرت المدينة وفرّت إلى الشمال، إلى مدينتي إدلب وحلب.

لا يخفى على أحد موقف نظام الأسد من إدلب وحلب. وسيطرت المعارضة على المدينتين الشماليتين وجعلت منهما معاقل لها، الأمر الذي جعل كل من يعيش في هاتين المنطقتين مطلوباً للسلطات الأمنية. وهذا يعني قطع كل التواصل بينهم وبين أقاربهم في مناطق النظام، حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي يراقبها حزب البعث. وهذا هو الوضع الذي فرق بين العديد من العائلات في سوريا حتى سقوط نظام الأسد الذي أسقط الحواجز بين العائلات.

صورة 3

ورغم تحسن الوضع الأمني ولم شمل العديد من العائلات، إلا أن هذا التحسن لم يؤثر على الجانب الاقتصادي، الذي كان هذا العام حاضرا بقوة على مائدة رمضان، حيث حرمت العديد من العائلات من المائدة التي اعتادت عليها منذ زمن خلال شهر الصيام. تشتكي زهرة من أبسط الأشياء، من أسعار الحبوب إلى أسعار الغاز والبنزين.

ورغم سلبيات النظام السابق التي وجدتها زهرة لا تطاق، إلا أن الوضع الاقتصادي في الماضي كان أفضل نسبيا من الحاضر، على حد قولها. ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال سعر أسطوانة الغاز التي اشترتها زهراء بواسطة بطاقة الشريحة بـ20 ألف ليرة سورية قبل سقوط الأسد، بينما كانت تباع في السوق السوداء بـ200 ألف ليرة سورية. ويبلغ السعر الرسمي للزجاجة الآن 200 ألف ليرة، وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على الأسر.

صورة 4

رمضان بين العصرين

من دمشق إلى المنطقة المحيطة بها حيث يعيش عدنان. وقال لايجي برس كيف اختلفت أجواء رمضان في دمشق بين عهد الحكومة الحالية وعهد نظام الأسد الذي ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير في عهده. وقال عدنان في حديثه لموقع ايجي برس إن شهر رمضان في عهد الأسد كان “مأساة” بالنسبة للسوريين بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل.

ووجد تجار المواد الغذائية الاحتكاريون المقربون من النظام في شهر رمضان فرصة لرفع الأسعار كيفما يشاؤون. ويستغلون حقيقة أن معظم الاحتياجات خلال شهر رمضان تعتمد على الطعام. يشكل شهر رمضان عبئًا كبيرًا على أصحاب المنازل حيث يجدون صعوبة في توفير المستلزمات المنزلية الأساسية.

ولم يكن ارتفاع أسعار السلع هو الأزمة الاقتصادية الوحيدة. وإضافة إلى ارتفاع الأسعار، كانت العديد من السلع غير متوفرة، وخاصة الديزل والبنزين، والتي أصبحت متوفرة مجدداً في ظل الحكومة الجديدة، بحسب عدنان، بعد أن كانت أسعارها مرتفعة وغير موجودة.

صورة 5

وعلى النقيض من زهراء، يرى عدنان أن الوضع الاقتصادي الحالي أفضل بكثير مما كان عليه في عهد الأسد. ويقول عدنان الذي غادر سوريا بعد سنوات من اندلاع الثورة إن المشكلة الرئيسية هي أن الناس لا يملكون المال الكافي لشراء الإمدادات. لقد فقد العديد من العمال وظائفهم وتم فصل بعضهم بعد حصولهم على رواتب في ظل النظام السابق دون أن يعملوا فعليا. ويشير إلى أن هذا التغيير في إدارة الأعمال وأماكن العمل جاء في وقت بدأت فيه الحكومة الجديدة عملية إعادة الهيكلة لتحديد من يجب أن يحتفظ بوظائفه ومن لا يجب أن يحتفظ بها.

ويعيش أصحاب المهن الحرة حالياً وضعاً اقتصادياً آمناً حيث يستطيعون التعامل بشكل مريح مع الجهات الحكومية والاستفادة من عملية البيع والشراء دون متاعب، وهو ما لم يكن ممكناً في السابق، بحسب عدنان -أحد أصحاب المهن الحرة- حيث تتبع دوريات الأمن أسلوب «السرقة والطغيان» على حد تعبيره في التعامل مع التجار.

ويقول عدنان إن دوريات النظام السابق التي كانت ملحقة بقوات الأمن المسؤولة عن قطاع التجارة خلقت حالة من انعدام الأمن الاقتصادي بين التجار من خلال مرور قوات الأمن ودورياتها خلال شهر رمضان بهدف ممارسة “الابتزاز” غير المبرر مع ازدهار عملية البيع والشراء خلال شهر رمضان.

لم يكن الوضع الاقتصادي سيئاً دائماً في عهد الأسد، ولكن ذلك كان قبل الثورة، حيث كان الوضع مستقراً نسبياً، بحسب عدنان، ولم يكن لارتفاع تكاليف المعيشة الحالي أي تأثير في ذلك الوقت. في عام 2010 بلغ سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار ما بين 47 إلى 50 ليرة للدولار الواحد. والآن وصل سعر صرف الدولار مقابل الجنيه إلى نحو 15 ألف جنيه، بعد أن مرت العملة بمراحل انهيار متعددة أوصلتها إلى وضعها الحالي. بدءاً من فرض العقوبات الغربية على النظام السوري، والتكاليف المرتفعة للحرب، والتدخل العسكري الروسي، وانخفاض إنتاج النفط، وغير ذلك الكثير.

صورة 6

بعد سقوط الأسد، يستطيع السوريون في الخارج العودة إلى بلادهم دون أن يواجهوا عواقب الكثير من الأمور. ومن أهم هذه الحلول دفع الرسوم العسكرية للشباب، وهو ما كان عليه الحال في الماضي لأن العودة إلى الوطن لم تكن سهلة في الماضي. دفع عدنان لجيش النظام السوري نحو 10 آلاف دولار فدية مقابل شرطه بعدم أداء الخدمة العسكرية. وقال عدنان شرف، الذي تحدث عن زيادة النظام المتعمدة للرسوم العسكرية على الشباب مقابل عدم الالتحاق بالجيش، إن “هذا الجيش والدولة بأكملها لم يمثلاني”.

المجاعة في دوما

بالنسبة لأيمن حمود من مدينة دوما قرب دمشق، كان الوضع أسوأ بالفعل: فقد فرض النظام حصاراً خانقاً على معقل المتمردين وحاصره بالقصف بالبراميل المتفجرة التي تحتوي على أسلحة كيميائية محظورة دولياً. وأفاد الدفاع المدني السوري أن ذلك أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، لا سيما النساء والأطفال.

رمضان هذا العام مختلف تماما بالنسبة لأيمن لأنه تمكن أخيرا من دخول دمشق دون الحاجة للاختباء أو الاختفاء. وكان له ماضي ثوري في دوما يكفي لتبرير اعتقاله عند دخوله دمشق. ولذلك بقي في المنفى خارج العاصمة حتى سقوط الأسد.

في عهد الأسد تحولت مدينة دوما إلى مدينة أشباح بلا بضائع ولا تجار. وبدأت المجاعة، مما أدى إلى مقتل العديد من الأشخاص وإجبار آخرين، مثل أيمن، على الوقوف في طوابير بالمئات لشراء علف الحيوانات. ولكن هذا لم يكن بالنسبة للحيوانات، بل بالنسبة للناس، حيث كانت جميع جوانب الحياة مفقودة تمامًا، وحتى أبسط الضروريات اليومية لم تعد متاحة.

أجبرت المجاعة في دوما أيمن حمود وكثيرين غيره على تناول الخبز الفاسد بعد إزالة العفن منه لإشباع بطونهم الممتلئة. وأعاد ذلك إلى الأذهان ذكريات أيام الشدة في المستنصرية قديماً حين باع صديقه سيارته لأحد الأشخاص ليحصل على كيلو من الرز. لكن هذا لم يجعل أيمن يستسلم، إذ تعاون الشاب مع الثوار في تلك الفترة، وقاموا بحفر الأنفاق من دوما في ريف دمشق إلى دمشق من أجل الحصول على الغذاء والدواء للمرضى.

0

في الماضي، عمل أيمن وأصدقاؤه في مجال الإغاثة الطارئة لتلبية الاحتياجات الأساسية للناس. قام أصدقاؤهم بجمع الأموال من خلال حملات التبرع وأرسلوها لهم. ثم ذهبوا عبر الأنفاق لشراء بضائع كانت باهظة الثمن وغير متوفرة كلها، مثل أدوية السرطان التي أراد شراءها لجاره المريض الذي توفي بعد فترة من الوقت. في هذه الأثناء، تغير عمل أيمن بشكل كامل، حيث حصل على وظيفة جديدة مع الحكومة ضمن الإدارة السورية الجديدة في دمشق.

لم يكن أيمن يتصور أنه سيتمكن من دخول دمشق في رمضان هذا العام، حيث كان مطلوباً من قبل نظام الأسد بعد اجتياح النظام السابق للمدينة إثر حصار دوما. هناك بدأت قوات الأمن بملاحقة كل من شارك في الثورة، وكان أيمن أحد الرجال الذين كانوا يبحثون عنهم. ولذلك فرّ من قوات النظام حتى دفع مبلغاً من المال حتى لا يتم اعتقاله. ولكنه لم يتمكن من دخول وسط دمشق والعمل هناك، كما هو وضعه الحالي بعد انسحاب الأسد. بالنسبة لكثيرين، مثل أيمن وغيره، كانت هذه إشارة للذهاب إلى دمشق والعمل هناك ومقابلة عائلاتهم بعد انفصالهم عنهم لسنوات.

ورغم أن تصريحات كثيرين حول الأوضاع في رمضان قد تغيرت قبل الأسد وبعده، إلا أن الجميع يتفقون على أن مظاهر الفرح والاحتفالات والزينة في دمشق لم تتغير قبل وبعد. لا يزال سوق العصفورية في مدينة دمشق القديمة في كامل روعته ولم يطرأ عليه أي تغيير من قبل الحكومات المتعاقبة.


شارك