ماكرون يعلن حقبة جديدة لأوروبا: تصعيد ضد روسيا وخطة دفاعية غير مسبوقة

سيطرت كلمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المشهد الإعلامي في فرنسا وأثارت جدلا واسع النطاق هناك بعد أن أعلن عن إمكانية نشر قوات أوروبية في أوكرانيا واقتراح خطة استثمارية ضخمة لقطاع الدفاع الأوروبي. وينبغي أن يتم ذلك من دون زيادة الضرائب، بل من خلال “إعادة توزيع الأموال في الميزانية”.
ويأتي هذا الخطاب في وقت حساس: عشية قمة أوروبية استثنائية في بروكسل لتقرير مستقبل الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وفي ظل مخاوف متزايدة من إضعاف الالتزام الأميركي في الحرب ضد روسيا.
وفي مواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة، طرح ماكرون رؤية تدعو الشعب الفرنسي إلى إظهار “القوة الأخلاقية” والاستعداد لتقديم تضحيات اقتصادية في وقت تدخل فيه أوروبا “عصرًا جديدًا” من الاضطرابات الأمنية والسياسية.
نهج تاريخي للتضحية الوطنية
وشبهت صحيفة لوموند الفرنسية الخطاب بصدى إعلان تاريخي آخر. في 16 يناير/كانون الثاني 1991، ألقى الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران خطاباً واضحاً إلى الشعب الفرنسي، أعلن فيه أن حرب الخليج الوشيكة “ستتطلب الكثير من الشعب الفرنسي”، وأكد: “يجب أن تكونوا واضحين بشأن هذا الأمر. إن حماية الحقوق في الخليج والشرق الأوسط مسؤولية يجب أن نواجهها، على الرغم من البعد عنا.
وأشارت الصحيفة الفرنسية أيضا إلى أن ماكرون، من جانبه، يبدو أنه يتبنى نفس النهج، محذرا من التحديات الوشيكة ومؤكدا على ضرورة اتخاذ إجراءات اقتصادية وسياسية حاسمة لضمان أمن فرنسا في مواجهة التهديدات المتصاعدة.
وتحدث الرئيس الفرنسي، مرتدياً الأسود، إلى الشعب الفرنسي، الذي “شعر بقلق مبرر” إزاء التقارب المتزايد بين الولايات المتحدة وروسيا على حساب أوكرانيا. وبحسب ماكرون، فإن هذا تحول استراتيجي يجبر أوروبا على دخول “عصر جديد”.
ماكرون يجهز فرنسا للتضحيات المالية
وقالت الصحيفة الفرنسية إن ماكرون استخدم لغة قوية في خطابه لوصف الوضع الدولي الحالي. ومن خلال إعلانه أن العالم دخل “عصرًا جديدًا” حيث “يعود التهديد من الشرق”، سعى ماكرون إلى إعداد الرأي العام لاتخاذ قرارات مالية جذرية لتمويل الجهود الدفاعية.
تصعيد الخطاب ضد موسكو ورفض “السلام المفروض”
وفي خطابه المتلفز مساء الأربعاء، حذر ماكرون بشدة من “التهديد الروسي”، وقال: “يبدو أن عدوان روسيا لا يعرف حدودا”.
وأكد أن أوروبا لم تعد قادرة على تحمل ترف الوقوف متفرجا في عالم مضطرب على نحو متزايد، وأكد أن “السلام لا يمكن أن يكون إملاء روسيا بل يجب أن يكون مرتبطا باحترام السيادة الأوكرانية”.
وتزامن الخطاب مع نية حكومة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تسريع المفاوضات مع موسكو. وثارت مخاوف من أن الحكومة قد تقدم تنازلات للكرملين على حساب أوكرانيا.
وأضاف “بينما لا تزال أميركا في عهد دونالد ترامب حليفتنا، أصبحت روسيا تشكل تهديدا لأوروبا”، مؤكدا: “أن نبقى مجرد متفرجين في عالم مليء بالمخاطر سيكون جنونا”.
تحذيرات ودعوات للتعامل مع «المرحلة الجديدة»
وأكد ماكرون أن فرنسا وأوروبا تواجهان مرحلة حرجة تتطلب زيادة الإنفاق الدفاعي لضمان الأمن والاستقلال الاستراتيجي. وفي هذا السياق، دعا الزعماء الأوروبيون إلى اعتماد مقترح فرنسي سابق من شأنه أن يسمح للدول الأعضاء بزيادة إنفاقها العسكري دون أن يؤثر ذلك على عجز ميزانياتها.
كما قدم الرئيس الفرنسي خطة لزيادة إنتاج الأسلحة الأوروبية. ويتم تحقيق ذلك من خلال “تمويل مشترك ضخم” لشراء وإنتاج الذخائر والأسلحة الحديثة في القارة. ويهدف هذا الإجراء إلى تقليل الاعتماد على الإمدادات الأجنبية.
ردود فعل غاضبة من موسكو وكييف
وردت موسكو بسرعة على خطاب ماكرون. ووصفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا تصريحاته بأنها “غير واقعية” ومتناقضة مع مواقفه السابقة.
من جانبه، رحب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالموقف الفرنسي لكنه شدد على ضرورة “الاستمرار في الضغط على روسيا دون منحها فرصة لالتقاط أنفاسها” بعد أن أدى هجوم صاروخي روسي على مدينة كريفي ريه الأوكرانية إلى مقتل ثلاثة أشخاص بينهم مواطنون أمريكيون وبريطانيون يعملون في منظمات إنسانية.
اهتمام إعلامي كبير وترقب على مستوى أوروبا
وحظي خطاب ماكرون بمتابعة عدد كبير للغاية من المشاهدين، نحو 15.1 مليون شخص عبر مختلف القنوات، وهو ما يعكس مستوى الاهتمام لدى الشعب الفرنسي ببلاده في ظل الوضع الدولي المتوتر.
في هذه الأثناء، يجتمع رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي في قمة خاصة في بروكسل لمناقشة تعزيز الدفاع الأوروبي ضد التهديدات الروسية.
وبحسب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فإن “أوروبا تواجه خطرًا واضحًا وحاضرًا لم نشهد مثله منذ عقود”.
خطة دفاع أوروبية بقيمة 800 مليار يورو
في ضوء التحديات الأمنية المتزايدة، أعلنت المفوضية الأوروبية عن خطة لإعادة تسليح أوروبا بميزانية تصل إلى 800 مليار يورو. ويهدف هذا المشروع إلى تعزيز صناعة الأسلحة الأوروبية وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي عن الضغوط الأميركية. ومن المتوقع أن تحظى هذه الخطة بالموافقة الأولية خلال القمة الأوروبية المقبلة.
هل أوروبا مستعدة لمرحلة جديدة من المواجهة؟
وتتساءل وسائل إعلام فرنسية مثل صحيفة لوموند وفرانس إنفو عما إذا كانت أوروبا قادرة حقا على تحقيق استقلالها الدفاعي، أو ما إذا كانت الانقسامات الداخلية وعدم الاتساق في الموقف الأميركي قد يعيق جهودها الرامية إلى معالجة التحديات الأمنية المتزايدة.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن خطاب ماكرون كان أكثر من مجرد تحذير: فهو يمثل خطوة أولى نحو إعادة تصميم سياسة الدفاع الأوروبية في مواجهة عالم أصبح أكثر خطورة من أي وقت مضى.